"اﻹبتهال إلى الله" للفنان محمود فرشجيان |
دعوة وأمر صريحين من الله تعالى بالتوجه إليه بالدعاء، بل ووعد بالاستجابة في قوله "اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم" فنحن الفقراء في كل شيء، نحن المحتاجون إلى قوة تعيننا على خوض هذه الحياة، لكن هل نتوجه إلى الله بالدعاء؟ هل نطلب حاجاتنا من القوي الذي لا تزيده كثرة العطاء إلا جودًا وكرمًا؟إن الله هو الغني الملطلق الذي له ملك السماوات والأرض، الذي بيده ملكوت كل شيء، "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَاﻻَرْضِ"(البقرة 107)، الذي أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، إنّه مَن لا ينفَدُ ما عنده بالبذل والعطاء، "إِنَّ هَذَا رِزْقُنَا مَالَهُ مِنْ نَفَاد"(ص53)، إنّه الذي لا يَعرف البخلُ والشحُ مكانًا في ساحته وحضرته سبحانه، فلا يضيق ملكه بعطاء، ولا ينقص شيء منه إذا جاد به على مَن يُحب، فليس من سبب إذن أن يرد سائلا من عباده إذا التجأ إليه في أمر يهمُّه صغيرًا كان أم كبيرًا وهو تعالى الذي يقول: "اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم"، إلاّ إن كانت اﻹجابة في غير صالح أو صلاح السَّائل، وهو العالم بكل شيء، فيعلم ما يَصلُح لعبده وما يضره، وما يُصلِحه وما يُفسِده، أمّا السائل فإنه جاهل لا علم له أمام علمه اللا متناهي جلَّ وعلا.
"وَالله غَنِيٌّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاء"(محمد 38) نحن الفقراء إلى الله نحتاجه في جميع حركة نقوم بها وجميع حالة سكون نكون فيها، نحن الضعفاء لا نملك من أمرنا شيئًا، وكلّما زاد وعينا بهذا الفقر والضعف كلما كنّا إلى الله أقرب بالدعاء والالتجاء إليه، وكلّما كنّا أقرب إلى رحمة الله تعالى، أمّا إن غفلنا عن هذا أو استكبرنا ولم نستشعره ابتعدنا عن رحمة الله…
من الجميل أن يلتجئ الإنسان إلى ربه في كل حاجاته صغيرها وكبيرها، إنِّه يعلن بذلك عبوديته الكاملة لله، قوةَ الله اللامتناهية، ملكَ الله غير المحدود، عطاءَه غير المحظور... وليس في أي طلب يتوجه به العبد إلى ربه ما يعجزه أو ينقص من ملكه شيئا، بل إنه تعالى يحب أن يكون عبده على صلة دائمة به يعود إليه في كل حاجاته، يستخيره في كل خياراته، يطلب عونه وتوفيقه في كل أعماله، فتكون يده ممدودة إلى بارئها، ويكون على صلة بالله في السرَّاء والضرَّاء. أمّا أقصى درجات الطلب فهي تلك التي تكون عند الاضطرار، "أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ" (النمل 61) والاضطرار هنا يعني بأن لا يجد الإنسان أي حل سوى الالتجاء إلى الله تعالى فيفقد كل خياراته ويستنفدها، لا مخلوق على وجه اﻷرض يستطيع أن يعينه، يجد نفسه وقد أُغلقتْ أمامه كل اﻷبواب ما عدا بابه عز وجل فإنه مفتوح دائما وأبدا، حينها يكون الأمر بيده وحده سبحانه، يعطيه أو يمنعه، يدفعه أو يرده، يعينه أو يدعه… لكن الدعاء لا يغني عن السعي والعمل واتخاذ الأسباب.
كما نعلم جميعًا أن الغاية من الخلق هي العبادة، و"الدعاء مخ العباة" كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ونرى أنّ في اﻵية الكريمة " اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين" (المومنون 60) بعد الدعوة صريحة إلى الدعاء والعهد بالإجابة -سواء عاجلة أم آجلة-، أتى ذكر المستكبرين عن عبادته أي دعائه -كما فسر ابن كثير هذه اﻵية الكريمة- سوف ينالهم غضب من الله وعذاب شديد، وسيدخلون جهنم صاغرين أذِلّاء، وهذا موافق لقوله صلى الله عليه وسلم "من لم يدع الله ، عز وجل ، غضب عليه" ففي الدعاء إقبال العبد على الله، واﻹقبال على الله هو روح العبادة ولبُّها، وقيمة العبادة تتجلّى في أنها تشد العابد إلى المعبود وتربطه به، ومن دون هذا ما صارت العبادة عبادةً، لأن فيها إقبال وحركة إلى الله، قصد لوجهه وابتغاء لمرضاته، واﻷهم من ذلك إعلان للعبودية والحاجة، وكل هذا يحققه الدعاء.
إنَّ الدعاء من أسباب اهتمام الله بعبده فقد قال تعالى "قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُم" (الفرقان 77) -كما جاء في تفسير ابن كثير- أي لولا اِلتجاؤنا إليه تعالى بالدعاء ما كان ليَعْبَأَ أو ليهتمَّ بأمورنا، وإذا اهتم إنسانٌ بأخيه اﻹنسان أحاطه بالرعاية، والجود والعطاء، أجاب كل حاجاته وطلباته… كما نلاحظ هذا أيضا في اهتمام الوالدين بأبنائهما ومعاملتهما لهم. ما هذا إلّا اهتمام العبد بأخيه، فكيف باهتمام الله تعالى وهو الكامل، الذي بيده الخير كله، والخلق واﻷمر جميعا، هذا وقد أحاطنا بنعم لا حصر لها دون أن نسألها، وهو من أسمائه الوهَّاب، الرزَّاق، المُجيب، الواسع، الوَدود، الغني، المُغني، الكريم…
لو نعي هذا جيدًا لكان ذِكرنا كله دعاءً وعودةً إلى الله تعالى، لسألناه حتى في فتح الباب وملح الطعام، بل وإن وعينا ما في ترك الدعام من سخط الله تعالى لما توقفنا عنه فقد قال علي كرّم الله وجهه "الحمد لله الذي مرضاته في الطلب إليه، واِلتماس ما لديه، وسخطه في ترك الإلحاح في المسألة عليه". هل نستشعر ونستحضر كل هذا الفضل والخير ونستغله؟ أم نحن نحرم أنفسنا من هذا السلاح المعين؟ فقد قال خير الخلق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين".
نورالدين الواهج